الدكاترة ودورهم في التربية والتكوين، د. بن لحمام بوجمعة

الدكاترة ودورهم في التربية والتكوين

د. بن لحمام بوجمعة

في رسالته الأخيرة بمناسبة اليوم العالمي للمدرس، رسم السيد وزير التربية الوطنية صورة عن واقع التعليم بالمغرب وتحدياته، لا تدعو إلى أي يأس من إصلاحه. ويود كل غيور على التعليم، وكل شريف، لو أن هذه الصورة تكون حقيقية، وأن وعود السيد الوزير تجد الظروف المواتية، والالتزام المفترض من نساء ورجال التعليم بحيث يضمن كل هذا تحققها على أرض الواقع. ولذلك سيكون مبعثا على خوف شديد أن حلمنا، الذي يجب أن يكون مقدسا، بتعليم ناجح ومواكب، تقف في وجهه مرة أخرى عوائق تحول دون تحقيقه. إن أحدا من أبناء هذا الوطن لم يعد يطيق أن يستمر هذا الوضع المخيف، الذي يعيشه تعليمنا، وبات الجميع يتوقون إلى يوم تشرق شمسه بأضواء أمل ساطعة تنزاح معها كوابيس الفشل الذي خيم طويلا.. فهل من مطمع بهذا الحلم العزيز.. وهل من عزمة صادقة تبدد التردد والشك.. إن هذا قطعا هو الهدف الأكثر عظمة والأكثر نبلا الذي يتحدى جدارة المغاربة جميعا بتاريخهم العريق، كما يتحدى إيمانهم بوطنهم، وضرورة أن يكون هذا الوطن في المقدمة بين الأوطان الأخرى..

*       *      *

ونحن نحسب أن أكبر خطر يتهدد إصلاح التعليم ببلدنا هو ألا نجد الرجل المناسب الذي يستطيع أن يتحدى تطلع المجتمع إلى التغيير، كما يستطيع أن يخلق لديه الحوافز الكافية للاستمرار إلى النهاية. وفي هذه القضية يكون أكثر ما يجب الخشية منه والاحتياط له هو تلك النوعية من القرارات التي تتسم بالتسرع والتي لا تراعي أبعاد العدالة الديمقراطية والمصلحة العامة، وتلك الأوضاع غير الطبيعية وغير القانونية التي تعانيها بعض الفئات في الوزارة، دون أن تجد من يسعى إلى إصلاحها. إن مثل هذه الأخطاء تشيع انطباعا سرعان ما يتحول إلى قناعة أن ما من شيء جاد، وأن الأمر كله عبث في عبث؛ فلا أمل إذن في أي تغيير حقيقي..

وبرغم أن السيد الوفا أتى إلى الوزارة في مرحلة هي من أسوء المراحل في تاريخ التعليم بالمغرب، ومن أكثرها تعقيدا وتحديات، فإن كل هذا لن يكون، بالنسبة له، مسوغا كيما يقع في نفس أخطاء سابقيه، أو أن يغادر الوزارة، آخر المطاف، وهي باقية على حالها القديمة، بل وما فعل غير أن زادها ضعفا على ضعفها. إن هذه الوضعية الاستثنائية، على النقيض من ذلك، يجب أن تكون دافعا وحافزا يجعل السيد الوزير على قدر من الحساسية والتنبه والحكمة حيال قراراته، وحيال الأخطاء، خاصة، كيلا يرتكبها..

وإننا مهما التزمنا أكثر المنظورات تسامحا وتفهما، لا نملك إلا أن نقول، مع شديد الأسف، أن السيد الوفا لم يحتط بما يكفي للأخطاء، وأنه، من ناحية أخرى، قد أظهر من الأدلة ما يكفي على أنه يمتلك استعدادا للتعايش مع الأوضاع غير القانونية وغير المعقولة وقبول أن توجد بوزارته. وأقرب الأدلة أنه عندما مارس المبرزون حقهم الدستوري والقانوني في الإضراب احتجاجا على تملص الوزارة وإخلافها لوعودها، قام السيد الوزير بإصدار قرار بمعاقبتهم عن طريق الاقتطاع والمجالس التأديبية والإجهاز على حقهم في ساعات العمل. وأمام هذه الواقعة لن نفوت أن نسجل استغرابنا كيف يمنح السيد الوفا نفسه الصلاحية لتجاوز القانون وتجاوز الدستور. وفي واقع الأمر أن السيد الوفا، في هذا القرار بالضبط، هو من يجب أن يعاقب ويحاسب؛ فالمبرزون لم يفعلوا غير أن مارسوا حقهم الذي يضمنه الدستور دون أي تجاوز، أما السيد الوزير فقد تعمد الخطأ عندما سمح لنفسه بتحدي القانون والدستور والاعتداء على هذه الفئة.

*       *      *

لقد كان أهم ما راهن عليه السيد الوفا في رسالته، واعتبره دليلا على سداد سياسته في إصلاح التعليم، قراراته بخصوص التوقيت الجديد بالابتدائي، ومنع أساتذة الدولة من العمل بالقطاع الخاص، والخدمة الإلكترونية “إنصات”، وكذلك، وأساسا، إنشاء مراكز جهوية لمهن التربية والتكوين يعول عليها، بما خصص لها من موارد بشرية، في تكوين وتخريج أساتذة ذوي كفاءة وتأهيل، وقادرين على رفع تحدي الجودة في تعليمنا.

ويمكن القول عامة وبكل إنصاف وتجرد، إن السيد الوزير، قد كان موفقا في هذه القرارات – وفي أخرى لم تذكر -، وخاصة إذا أخذنا في الحسبان الاحتمالية الكبيرة لتنفيذها؛ فالسيد الوفا ابتعد عن الكلام التنظيري العام، واتخذ بالمقابل خطوات فعلية وعملية لا يمكن المراوغة بخصوص تطبيقها. كما أن قرارات من هذا القبيل إذا شملت كل الاختلالات التي تعرفها منظومتنا التعليمية، فإنها ستؤدي، من غير شك، إلى تحقيق الإصلاح المنشود. إنه لن يكون صعبا أننا نلاحظ أن جزءا كبيرا من السياسات التعليمية السابقة كان مجرد تنظيرات غير عملية وغير موضوعية !! وأقرب إلى الوعود والأماني منها إلى الأوراش العملية المحددة، والتي تحقق نتائج على ارض الواقع، كما يمكن تتبع مدى إنجازها.

وإذا ما كنا أقررنا أن سياسة السيد الوزير هي سياسة على الطريق الصحيح للإصلاح، فإن هذه لا يمنعنا أن ننبه إلى أن ثمة حاجة إلى مزيد من القرارات العملية الشجاعة حتى يمكننا النهوض بتحدي الإصلاح الشامل المنشود، هذا فضلا عن ضرورة الحزم بخصوص التدابير والإجراءات المتبعة لمراقبة وتتبع تنفيذ هذه القرارات. وهذا أمر في غاية الأهمية، إذ عليه مدار نجاح سياسة الإصلاح أو فشلها..

*       *      *

وحرصا منا أن قرار السيد الوزير، فيما يتصل بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، يحقق النتائج المرجوة، فإن لدينا جملة ملاحظات تهم الدور المفترض لدكاترة الوزارة في هذه المراكز..

وبداية، ومع ملاحظتنا أن ثمة من يجادل في أهلية وجدارة الدكاترة للتدريس بمراكز التكوين، فإننا نؤكد رأسا أن هذه الفئة – أي الدكاترة العاملين بوزارة التربية الوطنية – هي الأكثر جدارة وتأهيلا، من بين الفئات الأخرى التي يحددها القانون المعمول به في هذه المراكز للتدريس بهذه المراكز على الأقل من الناحية النظرية؛ وذلك بسبب كونها هي الفئة التي تحوز أعلى شهادة علمية في البلد، وكونها على رأس الفئات التي يحددها القانون للتدريس بهذه المراكز، فحسب المرسوم المحدد لهيئة التدريس بهذه المراكز (الجريدة الرسمية العدد 6018) نجد على رأس هذه الهيئة : أطر هيئة الأساتذة الباحثين.

وها هنا شبهة يثيرها البعض من أعداء هذه الفئة – داخل الوزارة وخارجها – مفادها أن الدكاترة ليست لهم خبرة أو دراية بتدريس الديداكتيك والبيداغوجيا وهي أبرز مهام مراكز التكوين. وفي واقع الأمر فهذه شبهة أوهى من بيت العنكبوت؛ فدكاترة وزارة التربية الوطنية وإن كانوا يدرسون مقررات لا تتصل في ذاتها بعلوم التربية المختلفة، فإنهم يمتلكون خبرة بالتدريس وبالفصول وبالإدارة يدعمونها طوال الوقت بقراءات متواصلة في علوم التربية.. وهل جوهر ما يدرس في علوم التربية إلا نتاج خبرة المدرسين المتراكمة مع الوقت والتجربة. ثم إن الدكاترة هم أكثر الفئات تمرسا بالبحث العلمي ولن يعجزهم أن يعمقوا معرفتهم وخبرتهم بعلوم التربية، بل وبوسعهم أن يطوروا من البحث في هذا الحقل الذي نجد أغلب بضاعة من يكتب فيه بضاعة هزيلة ليست أكثر من ترجمة لنظريات الآخرين في بلاد الغرب، وكأننا مصابون بالعقم ولا نستطيع أن ننتج شيئا خاصا بنا.. إن الأمر في مجمله مجرد تيولوجيا حاقدة، وإلا فبأقل تفكير منطقي سيتضح أن الدكاترة هم الفئة الأكثر جدارة من أي كان غيرهم أن يتولوا مهام التربية والتكوين؛ ولقد أثبت من سبق إلى هذه المراكز من الدكاترة – عبر المباراة الأولى – جدارتهم وقدموا أروع الأدلة على استعدادهم للتفوق والإبداع في مجالات التربية والتكوين المختلفة.

والواقع أننا، وإن كنا انخرطنا في هذا الحجاج الذي نرمي من خلاله إلى الدفاع عن حق من حقوق الدكاترة، فإننا نعتقد اعتقادا لا رجعة عنه أننا لن نكون بحال في حاجة إلى الدفاع عن الدكتوراه والدكاترة على وجه الحقيقة؛ فالقضية غير ذات موضوع في واقع الأمر. ونحن إنما نجاري فئة فاسدة حاقدة حاسدة، في أوهامها وترهاتها، اضطرارا، لما نعلم من أنها يمكن أن تضلل كثيرا من الناس.. أم أننا على خطأ فيما نذهب إليه وفيما نقوله ؟ !! إنه يمكن أن يحاجج البعض بما يتبدى له من شتى الحجج ويمكن مناقشته، إلا أن يشكك في جدارة وأحقية الدكاترة وأوليتهم من ناحية نظرية بحتة. وعلى هذا الأساس لا يبقى لتلك النوعية من الاعتراضات ذات الطابع النسبي من قبيل أن مستوى “بعض” الدكاترة ضعيف، وأن دكتورا أو أكثر بمركز من مراكز التكوين “أعرفه مستواه العلمي صفر ولا أخلاق له.. إلخ” كما ينخرط في هذا بعض من أساتذة الجامعات أيضا !! أقول إن مثل هذه الاعتراضات لن يبقى لها من قيمة حجاجية مطلقا، وذلك بسبب من نسبيتها واستثنائيتها خاصة؛ وذلك لأن مثل هذا الكلام النسبي التعميمي يمكن أن يقال في حق كل الفئات الأخرى.

وبالمحصلة، فإن إقصاء الدكاترة وتهميشهم وتجاهل حقوقهم والإصرار على إهانتهم، بإبقائهم ضمن أوضاع لا تليق بمستواهم وشهادتهم، لن يكون ثمة ما يفسرها إذا عدنا إلى القانون والمنطق، ولكن سنجد، بكامل السهولة والوضوح، أن أسبابها ترتبط بقناعات أفراد يتصرفون وفق أهوائهم، في تناقض صارخ مع ما تفرضه مواقعهم ومسؤولياتهم. إن هذا الملف يجب أن يطوى دونما تردد أو تأخير، أو أنه سيبقى وصمة عار على جبين الحكومة والوزارة، وعلامة فارقة على مدى الإهدار الذي تعرفه منظومتنا التعليمية، وعلى درجة التخبط في السياسات المتبعة بالقطاع..

إن السيد الوفا، قد علق أملا كبيرا على المراكز الجديدة، في أن تنهض بإصلاح التعليم – على الأقل في قطاع التربية الوطنية – ونحسب أن هذا رهان صائب تماما لأن هذه المراكز هي ما يعول عليه في تكوين الأساتذة بجميع الأسلاك – وخاصة بالابتدائي لأن إصلاحه يضمن إصلاح ما بعده في الغالب – وتأهيلهم علميا وتربويا وأخلاقيا للقيام بمهامهم على الوجه المطلوب؛ والأستاذ من غير شك هو أساس العملية التربوية التعليمية أكثر من غيره، ويتوقف عليه فشلها ونجاحها، لكن الخشية كل الخشية أن لا يتمكن السيد الوزير من تجاوز الاختلالات العميقة والبنيوية التي تعانيها هذه المراكز، أو أن يعجز عن إصلاح أوضاع فاسدة كثيرة تعرفها. وعلى الأقل فيما يتصل بهيئة التدريس بهذه المراكز، فإننا نعتقد أن فئة الدكاترة العاملين بالوزارة يمكن أن تكون الفئة التي يجب المراهنة عليها أكثر من غيرها؛ وذلك لأنها نظريا الفئة التي تحوز أعلى شهادة علمية، ولأنها من ناحية أخرى تمتلك خبرة متراكمة وتجربة في التدريس؛ فلن يكون لأي فئة أخرى ما تتقدم به عليها.. ثم إن السيد الوفا لن يكون، بالمراهنة على هذه الفئة، في مواجهة تحدي المناصب المالية الذي يمكن أن يشكل عائقا حقيقيا أمام نجاح سياسته بهذه المراكز؛ فالدكاترة العاملون بالوزارة لهم مناصبهم المالية، كما لا يخفى.

وإذن فما الذي يمنع من حل ملف الدكاترة بالمراهنة على دورهم المفترض بهذه المراكز- ومن المعلوم، إضافة إلى ما ذكرنا، أن هذه المراكز تحتاج على نحو فعلي إلى هؤلاء الدكاترة وإلى غيرهم كذلك لما تعرفه من خصاص مهول في هيئة التدريس؛ حيث تركز على التعاقد مع العرضيين في أغلب الأحيان- هل لأن هناك فئة أخرى أكثر جدارة ؟.. ونعلم جميعا أن هذا غير صحيح. طيب، هل شرط المباراة هو ما يمنع كما يروج البعض بإغراض ؟ بكل تأكيد لا؛ فالدكاترة لا يرفضون المباراة أو أي إجراء آخر. حسنا، وهنا يمكننا أن نجاري بعض من يحتج باكتفاء هذه المراكز، وأنها تتبع سياسة سد الخصاص فيما تعلنه من مناصب. وعليه نؤكد – كما سبق أن ناقشنا ذلك بتفصيل في مقال آخر سابق – أن هذه المراكز تعرف حالة من العطالة ومن قلة برامج التكوين والمكونين أساسا؛ ونحسب أن سياسة حكيمة ومنفتحة هي ما تحتاجه هذه المراكز كي تمارس دورها كما تفترضه أهدافها العامة التي أنشئت من أجلها؛ أما حالتها السابقة وحالتها إلى الآن، فلا يمكن اعتبارها طبيعية، بله أن تعد فاعلة ونشطة ومنتجة بدرجة مقبولة على صعيد وظيفتها ودورها في التكوين والتربية. وبكلمة فإن هذه المراكز التي يراهن عليها الآن في الإصلاح المنشود تحتاج حتما إلى التغيير، هذا التغيير الذي نحسب أن الدكاترة – بكل حيادية وموضوعية- يمكن أن ينهضوا بأكبر قدر من تكاليفه وتحدياته.

إننا لما نزل على اعتقاد عميق أن قضية الدكاترة العاملين بوزارة التربية الوطنية هي قضية عادلة لا تحتاج مطلقا إلى أي دفاع عن عدالتها وشرعيتها، بل تحتاج فحسب إلى تغيير هذا الوضع المختل الجائر. وإننا نعتقد بالقدر نفسه من العمق أن حلها لن يكون إلا على يد رجل لا يقف شيء في وجه إيمانه بالعدل والحق والإنصاف؛ رجل على درجة عالية من النبل والشعور بالكرامة والقدرة على تقدير الإنسان؛ رجل يكون أقوى من أن تجعله أهواء ورغبات وإغراءات الفاسدين لعبة بين أيديهم يحققون بها أهدافهم ومآربهم الرخيصة؛ بديلا عن المصالح والأهداف العليا للوطن والمجتمع.

*       *      *
ونحسب أن الوعد الذي قطعه السيد الوفا على نفسه بحل ملف هذه الفئة في متم العام الحالي (2012)، أو على الأكثر في حدود الشهر الأول من العام القادم، سيشكل الالتزام به واحدا من أعظم إنجازات السيد الوزير على عهد توليه لهذه الوزارة، كما سيكون دليلا على أنه كان أكثر جرأة وشجاعة وإنصافا من سابقيه في تسوية الملفات العادلة للفئات العاملة بوزارته.

ونشير في الأخير أن جزءا من هذا الوعد قد عرف طريقه للتحقق بإجراء المباراة الثانية، وينتظر أن يتحقق الجزء المتبقي، عن طريق تغيير الإطار لجميع دكاترة الوزارة عبر المباراة الثالثة والأخيرة كما يتوقع ويريد جميع الدكاترة..

Comments are closed, but trackbacks and pingbacks are open.