الحوار الجهوي لتأهيل منظومة التربية: تأملات في معالجة الموارد البشرية

تقرير حصيلة لقاءات الحوار الجهوي لتأهيل

منظومة التربية و التكوين والبحث العلمي أكتوبر 2014 [1] :

تأملات في معالجة التقرير للموارد البشرية

ذ. محمد ميلي

الكاتب الإداري ج.و.ت الفرع المحلي السوالم – سيدي رحال

[email protected]

 02-02-2015

انطلاقا من منهجية عمله التي تقوم على الحوار و المقاربة التشاركية و المعالجة العلمية الدقيقة [2]؛ نظم المجلس الأعلى للتربية و التكوين و البحث العلمي ، سلسلة اللقاءات التشاورية الجهوية من أجل الاستماع لمختلف الفاعلين التربويين و المهتمين بالشأن التربوي بالبلاد ، و ذلك في أفق بلورة التوجهات الكبرى ومقترحات تغيير وتطوير منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي . و قد تكللت هذه اللقاءات بكتابة تقرير تركيبي تحت عنوان : حصيلة لقاءات الحوار الجهوي لتأهيل منظومة التربية و التكوين والبحث العلمي أكتوبر 2014  .

تناول هذا التقرير في المحور الثالث من القسم الثالث (حصيلة الاستشراف ( عنصر  الموارد البشرية  ( ص 54) و قد طرح في سطوره الأولى إشكالية هذه القضية ، بوضوح تام ، حيث جاء فيه : ” غطت التدخلات مختلف الجوانب التي تحيط بالعنصر البشري العامل في التربية والتكوين، بدءا بالقضايا المرتبطة بالإطار القانوني والمؤسساتي، وانتهاء بأخلاقيات المهنة والصورة الاجتماعية للفاعل التربوي مرورا بإشكاليات ولوج المهنة والتكوين والتأهيل، والظروف الفعلية لمزاولة مهن التربية والتكوين . ”

نلاحظ أولا أن التقرير يطرح قضية الموارد البشرية طرحا فوقيا ، أي أنه يطرحها على المستوى القانوني و المؤسساتي ، و يتأكد ذلك عندما نقرأ في التقرير أن ”  القضايا ذات الصلة بالإطار و التكوين و التأهيل ، و مزاولة المهنة هي التي استأثرت أكثر باهتمام المتدخلين و المتدخلات …” ( ص 24 )    و عليه فإن الإصلاحات المرتقبة في مجال الموارد البشرية يجب أن تنطلق من هذه المقاربة الفوقية ، أي من خلال الاهتمام أولا بالإطار القانوني و المؤسساتي الذي يخص العاملين بميدان التربية و التكوين باعتباره القالب الذي سيفضي إلى خلق عنصر بشري قادر على بلورة إصلاحات الدولة و تطبيق المناهج التي تسعى من خلالها إلى بناء المجتمع وفق رؤيتها السياسية له . و إذا فإن ما يسميه التقرير، إطارا قانونيا و مؤسساتيا ، يساوي نظرة الدولة ، التي هي المشغل ، للعنصر البشري الذي يعمل في التربية و التكوين .

واضح إذا أن الدولة ستهدف إلى وضع نظام أساسي ،خاص بالعاملين في ميدان التربية والتكوين ، يعبر عن تطلعاتها ، و من أهم سمات ذلك النظام الذي سيتم وضعه ” التحفيز ” ، لأن النظام الحالي غير محفز للأطر التربوية ( ص 24 ) .

نحن لا نعترض على حق الدولة في تشكيل الشخصية المهنية  للعاملين لديها غير أن التخوف الذي ينتابنا خلال هده المرحلة ، و هو تخوف مشروع بالنظر إلى التجارب السابقة التي مر منها إصلاح المنظومة، يتعلق بنظرة الدولة باعتبارها ،المشغل ، للموارد البشرية . فمعلوم أن مفهوم  التحفيز في إدارة الموارد البشرية يعني : المقابل المادي و المعنوي الذي يقدم للأفراد كتعويض عن أدائهم     المتميز [3].  فما الذي سيضمن لنا هذا المقابل المادي و المعنوي في مرحلة تفكر فيها الدولة بمنطق  سقف الكلفة الإجمالية للمشروع و هوامش الربح و الخسارة التي يفرضها منطق اقتصاد السوق ؟

ليست نظرة الدولة ،المادية ” المالية ” ، للموارد البشرية هي التي تبرر هذا التخوف فحسب و لكن تخوفنا نابع أساسا من القراءة الفوقية التي جاء بها التقرير التركيبي الذي نحن بصدد قراءته و الذي يؤكد تلك النظرة  المادية و يزكيها فقد ” كانت التشخيصات المخصصة للأخلاقيات و الوضع الاجتماعي ( الخاص بالعاملين في القطاع ) اقل تفصيلا ” ( ص 24) . و عليه فإن اللقاءات التشاورية التي عقدها المجلس الأعلى مع الفاعلين في قطاع التربية و التكوين أكدت أن مشكل الموارد البشرية ليس في أوضاعها الاجتماعية  و إنما في الإطار القانوني و المؤسساتي الذي ينظم مهن التربية والتكوين .

صحيح أن الإطار القانوني و المؤسساتي التي ينظم أي مهنة يلعب دورا كبيرا في تحقيق الجودة  و رفع الإنتاجية . و لكن يجب أن لا ننسى أن الوظيفة الأساسية التي ينبغي للنظام الأساسي ،الخاص بالعاملين في قطاع التربية و التكوين ، أن يؤديها هي تحفيز الموارد البشرية معنويا و ماديا . و عليه فإننا ندعو اللجنة التي ستشرف على إصلاح النظام الأساسي إلى عدم الاقتصار على القراءة التي قدمها التقرير التركيبي ؛ و الذي رتب القضايا المرتبطة بالموارد البشرية  على الشكل الآتي : الحق في التكوين و التعلم مدى الحياة ، التشريع المرتبط بالأدوار و المهام ، الجوانب الخاصة بالوضع النفسي ، الاستقرار المهني و الاجتماعي للفاعل التربوي .( ص 24 )

إن إقرار نظام أساسي عادل و منصف و محفز يقتضي أولا، إعادة بناء هذه الجوانب التنظيمية   و معالجتها معالجة  علمية دقيقة[4] ؛ تنطلق من القاعدة التي دعامتها الاستقرار الاجتماعي و النفسي ،ثم المهني للفاعل التربوي ، استقرار قائم على التحفيز المعنوي و المادي ، الذي يجعل من رجال و نساء التعليم أساس كل رفاه و استقرار اجتماعي ، من خلال  تصحيح قواعد الترقية و مراجعة شاملة لمنظومة الأجور، مراجعة  تضمن لهم و لذويهم الكرامة الاجتماعية ،و تعيد لهم المكانة الاعتبارية التي ما فتئت بعض القوى الخفية تحاربها من خلال منابر إعلامية و مؤسسات لا تؤمن ألا بمنطق تشويه صورة الفاعل التربوي .

إن إقرار نظام أساسي عادل و محفز  ،يقتضي ثانيا، ضمان الحماية الاجتماعية للفاعل التربوي، من خلال: تحسين خدمات التغطية الصحية و التأمين، والتقاعد والمعاشات، والحق في السكن، ولم لا الحق في الترفيه و السفر، و غيرها من الأمور التي ستساعد على التجديد و الابتكار و الرفع من المردودية .

نحن لا نبخس قيمة التكوين و التعلم مدى الحياة، ولا نقلل من أهمية البحث العلمي،  و لا نحط من دور الإجراءات التنظيمية الخاصة بالتشريع ،و المهام ،و الأدوار .غير أن إعطاء الأهمية لهذه العناصر على حساب الاستقرار الاجتماعي و النفسي و المهني للفاعل التربوي، بل و تقديمها عليه على مستوى شكل الوثيقة ” التقرير” ، بل و التصريح المباشر من طرف مركب التقارير الجهوية بأن اهتمام المشاركين في المشاورات ” بمشاغل الفاعلين التربويين” كان من الأسباب التي لم تسمح بإعطاء قضية البحث العلمي ما تستحقه خلال تلك اللقاءات [5] . سلوكات تجعلنا نتساءل عن مدى استعداد الدولة لتحفيز الأطر التربوية ؟ ثم ماهي المقاربة التي ستعتمدها الدولة في تحفيز الأطر التربوية ؟

نلاحظ في القسم الثالث من التقرير “حصيلة الاستشراف” الخاص بعنصر الموارد البشرية أن كرامة الفاعلين التربويين تم ربطها بالحقوق المهنية داخل فضاء ممارسة المهنة، وجعل تحقيقها ملازما لتحسين ظروف العمل فقط، و لهدف واحد، و هو تجويد الأداء المهني. ( ص 52 ) لينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن الاستقرار المادي للفاعل التربوي الذي يمكن تحقيقه من خلال إلغاء نظام العمل بالتكليفات  و الأستاذ الجوال و المواد المتجانسة .

اختزال واضح لمفهوم الكرامة في ما هو مهني ينتهي بمجرد مغادرة الفاعل التربوي لفضاء المؤسسة وتجاهل تام للحمولة الإنسانية التي يتضمنها مفهوم الكرامة باعتبارها قيمة إنسانية لا يمكن تحقيقها إلا من خلال تمتع الإنسان، الفاعل التربوي ، بكل حقوقه دون أن ينقص منها أي حق أو يؤجل ، ذلك أن تحقيق الكرامة الإنسانية للمشتغل في قطاع التربية يقتضي تمتيعه بالحق في الصحة الجيدة       و التغذية الجيدة و السكن اللائق و النقل المحترم والترفيه والحق في المساواة مع باقي موظفي الدولة …

لقد أقر التقرير باهتزاز صورة الفاعل التربوي داخل المجتمع رغم ما يبدله من مجهودات ( ص 27 )، لكنه لم يقدم أي تفسير لهذا الوضع الذي يهدد استقرار النظام التعليمي، بل إن التقرير قدم مجموعة من المؤشرات التي تظهر هذا الاهتزاز و لعل أهمها ” افتقاده لسلطته التربوية ، و تدني صورته الاجتماعية و الأخلاقية ” ( ص27 ) لكن ماهي العوامل التي أنتجت هذا الوضع ؟

إن هذا الوضع يصبح مبررا إذا لاحظ الفاعل التربوي أن الدولة تخلت عليه ، فهو مضطر لمواجهة أعباء المهنة بشكل منفرد ،و قد يضطر في بعض الأحيان للدخول في صراع مع الدولة من أجل الحفاظ على المكتسبات أو انتزاع الحقوق أو المطالبة بأبسط ما يتمتع به الفاعل التربوي في دول أخرى تعتبر نموذجا بالنسبة إلينا .

و يكفي أن نعرف أن الفاعلين التربويين يضطرون لتحمل الإساءات اليومية سواء داخل فضاء المؤسسة، أو في الطريق، أو وسائل المواصلات ،أو حتى في التجمعات السكنية التي يقطنون بها،       و أماكن الترفيه التي يترددون عليها ، و السبب واحد هو عدم قدرتهم على تلبية حاجياتهم التي تجعل منهم فئة اجتماعية مميزة تحظى بالاحترام و التوقير اللازمين للتحلي بالأخلاق المهنية  النبيلة و الرفع من جودة  المرد ودية و الإنتاج .

فما جدوى التكوين في تكنولوجيا المعلوميات مثلا إذا كان الفاعل التربوي غير قادر على اقتناء حاسوب أو لوح إلكتروني يستثمره في أداء مهامه ؟ و ما جدوى نظام أساسي يمنح للفاعل التربوي إطار حارس عام أو رئيس مؤسسة أو متصرف … إذا كان هذا الإطار غير قادر على مواجهة أعباء الحياة اليومية ؟ و ما جدوى الحديث عن أخلاق المهنة في زمن طغت فيه الماديات بسبب اختيار الدولة التوجه الليبرالي الذي لا يؤمن إلا بأخلاق بنيت على المادة ؟ هل يعقل أن تستمر الدولة في اعتماد مقاربة العفاف و الكفاف في تعاملها مع الفاعل التربوي ؟ أليس من حق الفاعل التربوي أن يعيش بسلام دون أن ينتظر نهاية الشهر ؟

 

 [1]  يمكن الإطلاع على التقرير من خلال الرابط التالي: http://www.csefrs.ma/debat/PDF/Rapport_synthese.pdf

[2]   التقرير التركيبي حول حصيلة لقاءات الحوار الجهوي لتأهيل منظومة التربية و التكوين والبحث العلمي أكتوبر 2014, ص 11

[3]  أحمد ماهر ,إدارة الموارد البشرية .الدار العربية , ط ,الإسكندرية ,2009 ,ص 248

[4]  التقرير التركيبي حول  اللقاءات الحوار الجهوي لتأهيل منظومة التربية و التكوين والبحث العلمي أكتوبر 2014 ص 7

[5] المرجع نفسه ، ص 62 .

اترك تعليق

لن يتم نشر أو تقاسم بريدك الإلكتروني.