ملف الدكاترة العاملين بوزارة التربية الوطنية – قراءة في التطورات الأخيرة – د. بن لحمام بوجمعة ، يوليوز 2012

هذه المقالة مكرسة – كما يوحي بذلك عنوانها – لمقاربة الأطوار الجديدة والراهنة في ملف الدكاترة العاملين بوزارة التربية الوطنية، وتضع أيضا كهدف مواز -على صعيد التأويل واستنباط الدلالات- تتبع الصلات والارتباطات القائمة رمزيا، أو على مستوى أنواع التفسير الأخرى ذات الطابع الموضوعي، بين وقائع وتفاصيل النضال الذي تخوضه هذه الفئة في سبيل مطالبها من جهة، وبين أشكال الاستجابات وردود الفعل المختلفة، والتفاعلات التي تبديها الجهات الأطراف المعنية والمسؤولة بوزارة التربية الوطنية، بما هي تطبيق لمتضمنات الدستور والقوانين المنظمة بهذه الوزارة، أو كما يفترض أن تكون نظريا على الأقل، وذلك لأن الممارسة الواقعية تتخذ صورة مختلفة بكل تأكيد!!
اعتصام تجاوز الشهرين
بدأت الوقائع الأكثر درامية، والتي عكست أشد الأطوار خطورة في الأزمة بين الوزارة والدكاترة، مع دخول هذه الفئة مطلع السنة الماضية في إضراب عن العمل، وفي اعتصام مفتوح أمام مبنى وزارة التربية الوطنية بساحة باب الرواح…
والواقع أن هذا الشكل النضالي الذي اتسم بتصعيدية واضحة، قد كان في حقيقته حلقة طبيعية ضمن سلسلة المحطات النضالية التي كان يخوضها الدكاترة منذ فتح هذا الملف لأول مرة العام 2002. وفي التطورات القريبة، وكما تكشف بيانات المرحلة، كان الدكاترة قد نظموا إضرابات إنذارية ووقفات احتجاجية، خاصة بعدما فرضت الوزارة المباراة في تصفية الملف، وبعدما نكتت بعهودها واتفاقياتها سواء في إعلان توقيت المباراة من جانب واحد، أو في تجاهل تعهداتها بإشراك الدكاترة في اللجان التقنية وفي لجان التتبع للمباراة.
ولذلك، فالقول إن الدكاترة اختاروا بطريقة تفتقد إلى الحس الوطني توقيت إضرابهم واعتصامهم لم يكن صحيحا، وهذا القول هو بالأحرى ما يجب اعتباره يفتقد إلى الموضوعية. لقد دعمت النقابات الخمس الأكثر تمثيلية هذا القرار وتبنته بتوقيعها على البيان المعلن لهذا الشكل النضالي التصعيدي، هذا فضلا عن استجابة الدكاترة بعدد غير مسبوق فاق الثلثين، وحجهم إلى المعتصم من كل جهات المغرب. وجدير بالذكر، أن هذا الاعتصام قد تجاوز الشهرين، بحيث بات حدثا استثنائيا ومعطى قياسيا ضمن تاريخ النضال النقابي في المغرب، كما أنه انطوى على قدر من المأساوية والمفارقة لا يمكن تصديقه، وهو ما جعله يكشف عن حقائق رهيبة تتصل بالسياسة العامة في التعليم بالمغرب، كما تتصل بطبيعة تعامل المسؤولين بالوزارة مع ملفات العاملين بها من الفئات المختلفة..
وكما أشرنا في بداية هذا المقال، فإن قصدنا لن يكون هو توثيق وعرض تاريخ المحطات النضالية التي خاضتها هذه الفئة، فإن هذا يمكن الوقوف عليه سواء في أرشيفات النقابات الداعمة، وخاصة لدى هيئات الدكاترة التابعة لها، في مواقعها وأدبياتها ووثائقها المحتفظ بها أو المنشورة، كما يمكن تقصيه في أرشيفات وسائل الإعلام، التي اهتمت بهذا الموضوع سواء منها الوطنية أو الدولية، ولكننا نضع كهدف رصد دلالات هذه الوقائع جميعا وتحليلها، سواء منها ما يتعلق بالقرارات النضالية للدكاترة، أو ما يتعلق بردود الأفعال المختلفة للوزارة حيالها…
أسلحة وزارة التربية الوطنية
وأول معطى يتيحه النظر في تعاطي الوزارة مع ملف الدكاترة – كما مع ملفات باقي الفئات الأخرى- هو تسلحها، على نحو مثير للاستغراب، بالكذب والمماطلة ونقض الاتفاقيات وإخلاف الوعود. ولعل انطباعا أوليا يمكن أن يثار حيال ما نقرره يذهب إلى أن استنتاجنا يتسم بسذاجة مفرطة ؛ فليس من جديد فيما يتم تقريره وقوله. بيد أننا، ومهما تكن مسوغات هذه القناعة شديدة الأفون، سنظل نعتقد أن هذا مسلك غاية في السوء، لا يمكن تصوره في مسؤولين كبار داخل الدولة. والحق أن ثمة إرادة يجري تكريسها بشكل منهجي، لجعل الناس يعتقدون أن هذا أمر طبيعي. والآن لم يعد شيئا مستهجنا أن الوزارة تضم مسؤولين يمتهنون الكذب، وقد مردوا على النفاق والتزييف وتسويق الأوهام. وبالنظر إلى عدد يعد الأكبر ضمن ملفات الفئات التعليمية، حيث تكون المطالب المتضمنة بمثابة حقوق أساسية خارج دائرة التفاوض نظريا، ومن جهة النظر القانونية، فإن الوزارة لا يبقى أمامها من حجة في أن ممارستها التفاوضية مع الفئات المحتجة، أو ممثليها من النقابات، لابد أن تأخذ صبغة شبيهة بالتعاطي السياسي، حيث المجال مشرعا للأخذ والعطاء ولقدرات الأطراف في الدفاع عن مصالحها، بما يعنى أنها ممارسة تفاوضية، أساسا، تعتمد فن الممكن شأنها شأن السياسة كما أشرنا إلى ذلك ؛ وعلى هذا الأساس، فإنه لم يكن من المنطقي تماما، بل لم يكن قانونيا أصلا أن فئة المجازين (السلم9) تدفع إلى نضال مرير وجنوني، شهد أحيانا تصعيدا مريعا واصطدامات خطيرة مع الشرطة وقوات التدخل السريع، وتجبر على الانخراط في حوارات غير ذات موضوع، في واقع الأمر، حول مطلب هو حق مهدر أكثر منه مطلبا تحسينيا يمكن التفاوض حول تحقيقه.
لقد كان المسؤولون بالوزارة يركنون إلى ما هو مقدور لهم من سلطة ومن قوة موقع، ويتحصنون بكل ذلك من مواجهة أخطاء قانونية فادحة وأوضاع غير قانونية هم من يتحمل المسؤولية الكاملة في خلقها، والتسبب في وجودها بإهمالهم وغياب المسؤولية لديهم. وإننا لنعجب شديد العجب من تصور كيف يمكن أن يقع مثل هذا الخطأ من مسؤول رفيع المستوى في الوزارة، وكيف سوغ لنفسه اتخاذ هذا القرار باستثناء فئة من الملتحقين بالوظيفة العمومية بسلم هو أدنى ممن وظفوا قبلهم وممن وظفوا بعدهم، ثم يتم الإصرار على هذا الخطأ ومحاولة فرضه لسنوات، في ممارسة أقل ما توصف به أنها أقرب إلى الميز العنصري المتعمد بين مواطني البلد الواحد. إن ثمة في الواقع خشية حقيقية أن المسؤولين بالوزارة لا يدركون معنى المسؤولية ويفتقدون إلى تقدير جسامة الأمانة التي يتحملونها، دينيا وقانونا ومواطنة. إن هذا فقط مثال واحد من أمثلة لا يظهر أنها ستكون لها نهاية، ولا تقل خطورة وغرابة عن مثال المجازين المذكورين. ولما كان ملف الدكاترة هو ما يعنينا في هذا الموضوع، فلا بد أن تكون لنا كلمة عنه في السياق المطروح. تكشف كرونولوجيا الملف أنه جرى مناقشة مطلبه الرئيسي (تغيير الإطار إلى أستاذ باحث) من طرف ثلة من المناضلين الرواد على عهد وزارة السيد المالكي. وكان السيد الوزير أقر في أول لقاء بحق فئة الدكاترة في تغيير الإطار، ووعد بتدارك هذا الاختلال على مستوى القانون الأساسي. ولم يكن أحد، في واقع الأمر، ليتوقع أن هذا الملف –على عدالة مطلبه- لن يعرف طريقه إلى الحل وإلى التسوية القانونية العادلة ولو على مدى سنوات بعد ذلك. ومن جهتهم لم يكن الدكاترة مستعدين للتنازل عن حقهم، فتواصلت نضالاتهم وتصاعدت، ولم تتوقف هي الأخرى إلى حد اليوم. وكان ما تعتمده الوزارة في مواجهة مطالب المحتجين، على عهد الحكومات المتعاقبة جميعا، هو الكذب، بالمعنى الحرفي للكلمة، بل تبييته قبل كل مفاوضة، عن طريق الوعود غير الصادقة، وبإخلاف تعهداتها مع المتحاورين معها. وهنا سؤال يطرح نفسه بإلحاح شديد: أليس ثمة مندوحة من لجوء الوزارة إلى مثل هذه الأساليب التي لا يقرها دين أو عقل ،أو يسوغها مسوغ مهما يكن …؟ ونحن نجيب رأسا أن المسؤولين لن يكونوا مجبرين مطلقا، في أي وضع من الأوضاع، لأن يلجأوا إلى هذه المخارج البئيسة. ومهما يبدو من أن بديل الوضوح والصراحة، الذي يفترض اقتراحه في هذه الحالة، لن يكون خيارا يغيب عن تفكير هؤلاء المسؤولين، إلا أننا نعتقد بكامل اليقين، أن اتخاذ القرار بتطبيقه، بل وتوفر القدرة على تبين نجاعته وإيجابيته للأطراف جميعا، هو شيء لا يمتلكونه بحال من الأحوال. وهذا معطى موضوعي وليس افتراضا نظريا. وأقوى دليل على ما نقوله هو هذا الاستمرار والإصرار على انتهاج ذات الأساليب، على مدى سنوات، دون القدرة على التصرف بطريقة مختلفة، برغم ما تجره – أي هذه الأساليب -من السلبيات والفضائح والخسائر، التي لا تترك للوزارة أو لمسؤوليها ذرة من المصداقية أو السمعة المحمودة، وتغرق المنظومة التعليمية، جميعا، في مستنقع من المشاكل والتحديات التي لا حصر لها، حتى غدا تعليمنا يصنف، قياسا إلى نظائره في دول العالم الأخرى جميعا، كأكثرها تخلفا وعدم مواكبة.
ومهما يبدو هذا الحكم قاسيا وفظيعا، فإنه لن يكون بدرجة قسوة وفضاعة الحقيقة الفاضحة والمؤلمة التي يعرفها الجميع، بل وتحدث عنها رسميا أكثر من دارس وباحث في علوم التربية، كما عرفت طريقها الممهد إلى وسائل الإعلام فدبجت عنها صفحات كلها سوء وعار.. وهي حقيقة الفساد.. هذا الداء السرطاني الذي استشري في جميع جسم هذه الوزارة، وتتكشف أدلة افتضاحه بين الفينة والأخرى. إن الأوضاع المأساوية التي تعيشها فئات تعليمية كثيرة، فضلا عما تضطر إليه من إضرابات عن العمل، وعن الطعام أيضا، ومن اعتصامات هي محن حقيقية تكابدها، وإلى ما بات حقيقة موضوعية في وعي الجميع، ونقصد هنا فشل وانهيار النظام التعليمي.. إن كل هذا، أقول، يتسبب فيه، حصريا، فساد المسؤولين في هذه الوزارة – ولسنا نعمم طبعا -. ولست في الواقع أقرر حقيقة جديدة ؛ فهذا بات شيئا مفروغا منه. ويستطيع البعض ممن يشكك في هذا الذي نقوله أن يعود رأسا إلى القضاء ليطلع على عدد القضايا الرهيب الذي تورط فيه مسؤولون على أعلى مستوى في الوزارة، ناهيك عمن تحتهم، وذلك فيما يتصل بتزوير نتائج المباريات وفي التوظيفات المشبوهة- المرتكزة على المحسوبية والزبونية والحزبية والرشوة وغير ذلك من جرائم الفساد. لقد كان يقال على عهد حسني مبارك أنه هو ونظامه منزهون عن الفساد، وأن حكم مصر يقوم على الديمقراطية والشفافية وتكافؤ الفرص ومراعاة حقوق الإنسان، وما في قبيل ذلك، كما كنت لا تعدم من يحدث بنعمة هذا النظام ويلهج بذكره صباح مساء. وكان المشككون، وهم قليل، يواجهون منظومة إعلامية كاسحة تبدد كل شكوكهم وتجعلهم معزولين بآرائهم التي تصبح شاذة وخارج السرب. ولنا أن نواجه ضمائرنا الآن ونجيب بكل صدق وبكل صراحة: هل كنا فعلا لا ندرك أن نظام حسني مبارك ومن يدور في فلكه من المنتمين إلى الحزب، ومن المستفيدين من الامتيازات من أزلامه وقرابته، غير فاسدين؟ أم أنه كان يجب أن ننتظر حتى تأتي الثورة لتعري هذا الفساد المستشري وتكشفه للعيان بفضائعه وفضائحه وجرائمه التي لا تصدق، وآنذاك نخرج من حالة السكوت المتواطئة ونقر أخيرا أنها هؤلاء فاسدون حقا.
والآن تواجه فئة الدكاترة في وزارة التربية الوطنية لوبيا فاسدا حاقدا تعرفه بأشخاصه يأبى بكل وسيلة وبكل ما هو متاح له من نفوذ أن تحصل هذه الفئة على حقها القانوني والشرعي في تغيير إطارها بالشهادة التي حصلت عليها. ولعل مثالا واحدا، في السياق المطروح، يبين لنا مدى خبث وفساد ولا أخلاقية هذا اللوبي، عندما يصر بعض أفراده على ترديد أن الدكاترة يريدون الالتحاق بمراكز التكوين وبالجامعات، فقط بالضغط على الوزارة بالإضرابات والاعتصامات ودون وجه حق من القانون، ملوحا برفض هذه الفئة للمباراة وهي المعبر القانوني والشرعي لهذه المؤسسات. ونحن نعلم جيدا أن هذا المسعى ينطوي على محاولة ماكرة في مغالطة الرأي وتأليبه على الدكاترة، لكن هذا هو ما سيسعى هذا اللوبي الفاسد إلى إخفائه. على أننا نتحداه أن يمتلك الشجاعة ليعترف بالحقيقة القانونية التي مفادها أن من حق الدكاترة أن يحصلوا على إطار: “أستاذ باحث” دون أن يربط ذلك بالتحاقهم بمركز التكوين أو بالجامعات. لقد كان يقصد إلى هذا الخلط وإلى هذه المغالطة في تعمد ليس أوضح منه دليلا على فساد هذا اللوبي وخبثه. وبالمناسبة، فإن على الرأي العام أن يعرف أن مطلب الدكاترة هو مطلب قانوني، بل، هو، في الواقع، حق وليس مطلبا ؛ حق يقره القانون. وليس من حق أحد بعد ذلك أن يلوم الدكاترة أنهم كثيرو الإضرابات والاحتجاجات ؛ فإن هذا حقهم المشروع الذي يطالبون به ليس لأهداف مادية، وذلك أن أغلبهم خارج السلموسيفقد من راتبه وتتقلص امتيازاته في الترقية وفي الأقدمية وغيرها بهذا التغيير، وإنما يطالبون به اعترافا بشهادتهم ورغبة أن يمكن لهم في شروط البحث العلمي الذي هو دافعهم الجوهري إلى الاحتجاج. إننا لا نفهم كيف أن الوزارة لا تعمد إلى مثل هذه الثغرات في القانون الأساسي وتسدها، وتعمل بذلك على درء الاحتقانات التي يعرفها تعليمنا. أم أنه يراد للناس أن يسكتوا عن حقوقهم ويتنازلوا عنها، وذلك بسبب أن فئة أخرى لا تريد أن تتحمل مسؤوليتها في أداء عملها على الوجه المطلوب والقانوني، أو أنها تحتال للاستحواذ على المناصب والميزانيات والاستحقاقات المختلفة، لتصرفها بطريقة -هي غير قانونية حتما– تستفيد منها لجيوبها الخاصة ولأقاربها والتابعين لأحزابها. إن القانون، في الواقع يقتضي أن المتورطين من المسؤولين في مثل هذه الممارسات تتم إحالتهم على القضاء لمعاقبتهم، ولا يجب أن يكونوا فوق القانون..
لقد كانت هذه عموما الملامح العامة الرئيسية لتعامل الحكومات السابقة جميعا مع ملف الدكاترة ؛ ملامح يمكن القول إنها كانت على درجة من السوء والبشاعة، بحيث رسمت صفحة ليس أكثر منها سوادا ورعبا في سجل وتاريخ وزارة التربية الوطنية، وفي سياستها المتبعة في تدبير ملفات قطاع التربية والتعليم ببلادنا، مثل اعتصام السنة الماضية وما ووجه به من سياسة صم الآذان، ومن استخفاف واستهتار بأمن ومصالح الوطن وبأعظم ثروة يمتلكها، أحد قسماتها الأكثر فضاعة وعبثية..
ملف الدكاترة والحكومة الجديدة.
من المهم لاستكمال أبعاد هذا الحديث أن نعود قليلا إلى الوراء، وبالتحديد إلى تاريخ سابق كان فيه الحزب الذي يشكل الحكومة الحالية واحدا من بضعة أحزاب، كانت لا تنفك تحتضن ملف الدكاترة وتدعم نضالهم كلما دعت الحاجة إلى ذلك ودونما قيود أو شروط. ونحن نود أن نشدد على أن هذا كان هو واقع الحال في تلك الفترة. وكان أكثر من قيادي سواء في الحزب أو في النقابة التابعة له، بما في ذلك رئيس الحكومة الحالي السيد بنكيران، قد أبدى دعمه اللامشروط لقضية الدكاترة اعتبارا لعدالتها أساسا، وذلك في أكثر من مناسبة سواء على المستوى الرسمي، أو في مناسبات أخرى غير رسمية. وزار الكاتب العام للنقابة التابعة للعدالة والتنمية المعتصم التاريخي أكثر من مرة وتعهد أمام الجميع باستمرار وقوف نقابته إلى جانب الدكاترة حتى تحقيق مطلبهم الأساسي في تغيير الإطار. وإني لأتذكر كل هذا كما يتذكره أيضا معظم الدكاترة، بل إنه لم يكن ثمة شك أن التزام الإخوة في هذه النقابة أو في الحزب وما يظن من صدقهم وبعدهم عن الفساد قد كان أكبر مولد للأمل بالحل لدى الدكاترة..
وحتى بعد تعيين الحكومة الجديدة بفترة غير طويلة من الزمن، كان عدد من مسؤولي العدالة والتنمية لا يزالون يبدون تأييدا كاملا لمطلب الدكاترة وحقهم في تغيير الإطار. وشكلت مشاركة السيد محمد يتيم، الكاتب العام لنقابة العدالة والتنمية، في الملتقى العلمي الثاني الذي نظمته العصبة، مناسبة أخرى، ذات أهمية خاصة هذه المرة، أبدى فيها السيد يتيم دعمه للدكاترة وقضيتهم، مقرا بحقهم في تغيير الإطار، وبأهليتهم غير المنازعة لتولي مهام البحث التربوي المختلفة في مراكز التكوين، أو مهام البحث العلمي عامة بالجامعات. وبالنظر إلى أجواء الملتقى وتوقيت انعقاده، وإلى ما صدر عن السيد المسؤول من تعهد علني ورسمي ووعود موثقة، فإن هذا الملتقى، وخاصة مع ما حظي به من تغطية إعلامية رسمية، كان مقدورا له أن يعتبر بمثابة محطة نهائية لنضال الدكاترة، قبل حل ملفهم الذي بات قريبا ومستيقنا أكثر من أي وقت مضى. ومن وجهة نظر عامة، فإن أحدا لم يكن ليشك في تبني العدالة والتنمية لهذا الملف وإخلاصه بعيد المدى في الدفاع عنه.
بيد أن ما تلا بعد ذلك من أحداث ووقائع، مع مباشرة الحكومة الجديدة أعمالها على نحو رسمي، سيكشف عن تطورات أدخلت الملف في مسارات لم تكن متوقعة تماما. فبعد فترة من تنصيب الوزير الجديد، وبخلاف عدد من الفئات التي لم تنتظر الموعد المضروب للبروتوكولات الرسمية لهذا الحدث، كي تخوض أشكالها النضالية المعلنة، سيضطر الدكاترة لخوض أول شكل نضالي في عهد الحكومة الجديدة، وهو ما أثمر دعوة سريعة إلى حوار مع السيد الوزير شخصيا، رفقة بعض من المسؤولين القدامى في وزارته. ولقد كان غريبا إلى درجة لا تصدق أن السيد الوزير لم يكن يعرف ما تعنيه بالضبط بعض الشواهد والدبلومات في وزارته، ولا ما تنطوي عليه من قيمة إشهادية تفاضلية، وبوضوح الصورة أمام السيد الوزير، فإنه سيعمد إلى إبداء أسفه الشديد على مقدار الظلم الذي لحق هذه الفئة في الوزارات السالفة، وتعهد بشرفه أن هذا الملف سيطوى قبل نهاية سنة 2012. واختصارا، فإن ما سيحدث بعد ذلك هو أنه سيكون للدكاترة لقاء ثان مع السيد الوزير جرى فيه بحث السبل التقنية والعملية لأجرأة الحل في ملف هذه الفئة، والذي سيكون هو تغيير الإطار للجميع على دفعتين، وذلك عبر المباراة في كل منهما. لكن وبدلا من تنفيذ المتفق عليه، ستؤكد الأيام القليلة التالية أن السيد الوفا لربما ليس لديه النية للوفاء بما تعهد به. وبعد إضرابات وتهديدات بالتصعيد من طرف الدكاترة ستفرج الوزارة عن مباراة بـ240 منصبا، فرضت كأمر واقع، وشابتها هي أيضا كسابقتها خروقات قانونية ووقائع تزوير وثقها الدكاترة. ومن عجب بعد ذلك أن السيد الوفا كان لا ينفك يعلن عن تشبته بتعهده بالطي النهائي لملف الدكاترة داخل الأجل الذي حدده. لكن هل سيتمكن الرجل من ذلك، إذا علمنا أن ما تبقى من الدكاترة يتجاوز لربما التسعمائة دكتور. والواقع أننا في تساؤلنا هذا، وفيما نفترضه من إجابة طبيعية عنه، نكون نستوحي أساسيات المنطق المتحكم داخل الوزارة في إدارة الأمور ومعالجة القضايا، المنطق الذي تأتي عبره الحلول ناقصة دائما أو أنها لا تأتي مطلقا، وتضيع معه المصالح وتتعقد الأوضاع وتترك للتقادم وللزمن عله يحلها بمعجزة أو يمحي أثرها لمرة أخيرة فلا تقض مضجع أولئك المسؤولين المقتدرين مرة أخرى!! أما إذا أردنا الاحتكام إلى منطق ما هو قانوني، وما يتصل بالأداء الطبيعي للمسؤوليات الرسمية، فإننا يمكن أن نشير إلى أن هذا العدد من الدكاترة، المهدرة طاقاتهم في التعليم الثانوي الذي يفترض أن له أساتذته المخصصين له قانونا، هم أقل مما تحتاج إليه على الأقل مراكز التكوين التي تعرف حالة مزرية من العطالة ومن الفراغ ومن الارتجالية في المناهج، ومن سوء الإدارة والتسيير في معظمها. إن الحقيقة الموضوعية بخصوص هذه المراكز هي أنها الآن تكاد لا تكون أحدا كما نبأنا غير واحد من العاملين بها سواء في الإدارة أو في التدريس ؛ وقد يكون صادما مثلا أن هذه الآلاف من حملة الشواهد العليا التي تدمج في أسلاك الوظيفة العمومية في المؤسسات التعليمية لا تتلقى تكوينا بهذه المراكز، وإنما تضخ في الثانويات المختلفة على صعيد الوطن بكرا وخاما مثلما جيء بها من شوارع الاحتجاج بالرباط.
وهذه حالة واحدة فقط، وإلا فإن التكوين والتكوين المستمر هو ضرورة وحاجة ملحة بالنسبة لجميع أطر التدريس، بما في ذلك أطر التعليم الجامعي، ويمكن أن تتولاه هذه المراكز ولو على شكل برامج استثنائية أو عبر آليات الشراكة أو غيرها.
وإضافة إلى هذه الحالة التي هي أقرب إلى الخراب منها إلى شيء آخر، والتي تعانيها هذه المراكز، فإنها، وضمن ملابسات وظروف معينة، غير طبيعية في الغالب، بل مشكوك في قانونيتها، كما تثبت وقائع عديدة، كانت تعرف توظيفات وتعيينات لفئات غير مؤهلة. وسنتعمد هنا التوقف وتجاهل تفاصيل ومعطيات يمكن أن تثير حفيظة البعض لا محالة. لكننا لن نجد غضاضة أن نشير، من باب التمثيل، إلى ما جرى السنة الماضية من تعيين لعدد من حملة شهادة الماستر تعيينا جديدا بهذه المراكز، في وقت كان فيه الدكاترة يخوضون أكثر أشكالهم النضالية تصعيدا للمطالبة بحقهم في تغيير الإطار والالتحاق بمراكز التكوين عبر المباراة أو عبر غيرها من الصيغ القانونية طبعا.. فأي منطق يسوغ إهمال الدكاترة في هذه الحالة -وأغلبهم له تجربة طويلة في التدريس العمومي وفي الجامعات كأساتذة عرضيين لمواد رئيسية في الغالب – وتقديم هؤلاء الطلبة الذين ليست لهم أي تجربة في التدريس، بل يحتاجون إلى من يكونهم ويؤهلهم ليصبحوا أساتذة مبتدئين فحسب ؛ فكيف لهم أن يشتغلوا بمراكز تكوين الأساتذة. إنها في الواقع عبثية وفوضى يصعب تصديقها. ونحن نؤكد أن حالات أسوء من هذا تحدث ليس مع الدكاترة فحسب، بل تحدث مع كل الفئات. إن هذا في الواقع لم يعد مما يثير أحدا ؛ فكم من الأوضاع المأساوية لرجال التعليم، وكم من الخروقات القانونية الفاضحة، لا تنقطع أخبارها في وسائل الإعلام، باتت مألوفة تماما ولا يتحرك أحد للتصدي لها. ويبقى ما هو مطلوب هو كيف يوضع حد لهذا النزيف الذي يمس واحدا من أخطر قطاعات الدولة والذي يعول عليه في النهوض بتحديات التنمية الشاملة للبلد.
لقد أدى هذا المسار غير المتوقع، الذي شهد فيه ملف الدكاترة تراجعا خطيرا، إلى أن يعرف الغطاء النقابي لنضال هذه الفئة تصدعا نتيجة عوامل متباينة سنرجئ الحديث عنها إلى فقرة خاصة ضمن هذا المقال، ويبقى أن نشيد هنا إشادة خاصة بموقف عصبة الدكاترة التابعة لنقابة العدالة والتنمية التي أبت إلا أن تستقيل من هذه النقابة احتجاجا على تخاذلها في الوقوف مع الدكاترة وإذعانها لحسابات حزبية غير مبدئية بالقطع، ضاربة عرض الحائط بكل وعودها في دعم هذه الفئة المناضلة حتى تحقيق مطلبها العادل في تغيير الإطار. كما نثمن عاليا موقف الهيئة الوطنية للدكاترة ونقابة الاتحاد المغربي للشغل لما تستمر عليه إلى الآن من تغطية الملف نقابيا بعدما تملصت جميع النقابات الأخرى الأكثر تمثيلية – التي كانت تحتضنه – من وعودها، وتنكرت دونما خجل لكل تلك الأيمان المغلظة التي كانت تأخذها على عاتقها في الاستمرار إلى النهاية في مناصرة الملف..
الآن، وضمن آخر أطوار هذا الملف، فإن الدكاترة يخوضون إضرابات متقطعة كان آخرها إضراب جرى تنظيمه نهاية الشهر الماضي (ماي 2012)، على مدى يومين تخللته وقفة احتجاجية أمام مقر الوزارة. وإضراب آخر مع بداية شهر يونيو المنصرم، وذلك لثلاثة أيام (2، 3، 4 يونيو 2012)، مع اعتصام يومين (2 و3) أمام الوزارة، وإضراب إنذاري عن الطعام ليوم، كان هو أحد أيام هذا الإضراب نفسه. وتتنامى لدى الدكاترة بما في ذلك القاعدون منهم، قناعة واضحة أنه لم يعد أمامهم من خيار، خاصة بعد فشل المراهنة على المباراة الثانية، وبعدما بات يضيق الوقت على الحل المفترض، إلا أن يخرج الجميع دون استثناء للمطالبة بحقهم عبر كل الأشكال النضالية بما في ذلك أكثرها تصعيدية ؛ إنه بات صعبا الآن أن يتقبل أي دكتور ألا يتغير إطاره إلى أستاذ التعليم العالي مساعد (أو أستاذ باحث)، وهناك فئة أخرى من الدكاترة حصلت على هذا الحق، وليس بين الفئتين من فروق حقيقية توجب هذا التمييز. وإن كان من عتب ولوم وسخط وإلقاء بالمسؤولية على هذا الوضع، فلن يكون موجها لمسؤولي الوزارة ؛ فهؤلاء أناس لا يتوقع منهم الاعتراف بحق أحد، بل هم بالأحرى يسعون بكل طريقة كي يجعلوا الناس يغلبون على أمرهم فيضطرون للتنازل عن حقوقهم، ولكن سيكون موجها إلى تلك الفئة من الدكاترة، وعددها كبير، التي آثرت القعود والانتهازية، على أن تقف إلى صف إخوانها من المناضلين الذين ضحوا بكل غال ونفيس من أجل هذا الملف العادل.
لقد كان هذا الملف يحتاج فقط، وسيظل، كي يعرف طريقه إلى حل مؤكد، إلى توحد الدكاترة وخروجهم جميعا، دون أن يتخلى أحد ؛ لكن للأسف الشديد أن الكثيرين لم تكن لهم قدرة على أن يعوا هذا الأمر. و الآن ستكون وطأة الخسارة – إن وقعت لا قدر الله – أكثر شدة على هؤلاء الذين اختاروا الانتهازية واختاروا القعود، وذلك لأنهم من جهة كان موقفهم في القضية غير مبدئي وغير أخلاقي، ثم هم ضاع عليهم هدف تغيير الإطار الذي يحرصون عليه بدناءة وهلع حرصهم على حياتهم الرديئة، وقد كان مؤكدا – أي هذا التغيير للإطار- لو أنهم خرجوا ودعموا إخوانهم في ساحة النضال.
كذلك نود أن نذكر في إطار هذه التطورات الأخيرة أنه كان هناك لقاء تناقلت أخباره وسائل الإعلام وبعض النقابيين الذين حضروه، تعهد فيه السيد وزير التعليم العالي أنه سيلحق الدكاترة العاملين بوزارة التربية الوطنية بالجامعات لأنها تحتاج إليهم لسد الخصاص في هيئة التدريس. ووزير التعليم العالي يعرف جيدا ملف الدكاترة، ودافع عنهم عندما كان في المعارضة. ويتساءل أكثر من واحد من الدكاترة عما إذا كان السيد الوزير جادا في وعده. لكن أحرى بنا، بعدما خبرناه من هؤلاء المسؤولين ألا نهتم كثيرا لما يقولون أو لما يعدون. ولعلها جدلا أن تكون فرصة يتدارك فيها المسؤولون في العدالة والتنمية بدءا من السيد بنكيران الذي لم يعد يتحدث بأي شيء عن هذا الملف، أو السيد الحسن الداودي وزير التعليم العالي الذي يكتنف موقفه كثير من التردد، أو السيد يتيم كذلك الذي خذل الدكاترة ولم تعد نقابته تهتم لملفهم أي اهتمام.. أقول لعلها أن تكون فرصة يتدارك فيها هؤلاء، أو غيرهم ممن له سلطة التدخل في الملف، هذا الموقف الغريب وغير المبدئي والذي يسيء إلى سمعة الحزب وسمعة الحكومة التي يقودها.
نقابة التعليم العالي وعداء الدكاترة
تتصدى نقابة التعليم العالي بكل حزم وبكل شدة لأي محاولة لاقتراب الدكاترة من الجامعة. وكأنما تذوذ عن حمى خلفه لها آباؤها أو ورثته عنهم ، فإن هذه النقابة، ترى أن ليس من حق واحد من دكاترة وزارة التربية أن تطأ قدمه الجامعة التي تملكها. وبالفعل، فأولى بكم أنتم أيها الدكاترة القادمون من إسرائيل ولاشك أن تبتعدوا عن حمى هؤلاء الناس، وإذا ادعيتم أنكم مغاربة وأثبتم ذلك، فلن تكونوا بحال من الأحوال في مستوى وطنية هؤلاء التي لا حدود لها، ولن يكون لكم حق كما لهم .. أنتم مواطنون من درجة أقل .. ألا تفهموا؟ والحق أن هناك فعلا صعوبة كبيرة في فهم دوافع هذا الموقف المتصلب لهذه الفئة المتعجرفة. وإذا كان السبب هو ما يقال من أن الدكاترة لا خبرة لهم بالتعليم الجامعي، فإن هذه حجة مردودة، وذلك لأن معظم دكاترة وزارة التربية الوطنية يدرسون بالجامعات كأساتذة عرضيين ولمواد ومجزوءات أساسية فوق ذلك، بل ويكون أداؤهم أفضل من هؤلاء … ثم هل الأساتذة العرضيون – من غير الدكاترة – والذين ليس لأغلبهم شواهد تؤهلهم للتعليم العالي (حملة الإجازة والماستر، والدبلومات الخصوصية … إلخ)، أقول هل هؤلاء أولى من الدكاترة الأكثر خبرة منهم، فتمتلئ بهم الكليات المختلفة الآن حتى باتوا مثار احتجاجات الطلبة وشكواهم وإضراباتهم لضعف مستواهم وهزالة بضاعتهم معرفيا وعلميا، بل وعلى مستوى التعبير اللغوي كذلك!! وبعد هذا وذلك فالدكاترة هم خريجو هذه الجامعات وصنيعة هؤلاء الأساتذة الجامعيين وثمرة مناهجهم، فإن يكونوا غير مؤهلين فإن هذا النقص مأتاه ممن تولى تأهيلهم وتأطيرهم..
أما إذا احتجت هذه النقابة بضرورة اجتياز المباريات المعمول بها قانونيا في هذا الإطار، والتباري على المناصب المعلنة، فإن الدكاترة لم يكن لديهم يوما اعتراض على هذا الأمر. لكن المشكل هنا هو أن المباريات لا تعلن إلا لماما وبشح كبير، وإذا ما أعلنت – وقلما كانت تعلن، بل كان يجري إخفاؤها وخاصة فيما مضى – فإنها لا تكون نزيهة مطلقا إلا في حالات ناذرة. ومما يؤسف له أن هذه هي الحقيقة، وإذا بدت صادمة وغير قابلة للتصديق، فيمكن التحقق والتأكد من ذلك بالعودة إلى ملفات القضاء وأرشيفات الإعلام، أو من أفواه الذين مورس عليهم التزوير وهم كثيرون وقصصهم أكثر إيلاما وأكثر غرابة. من جهة أخرى، فإن مشكل المناصب أو الميزانية لن يكون مطروحا في حال إلحاق الدكاترة بالجامعة، فإنهم جميعهم لهم مناصب مالية ومعظمهم خارج السلم، ثم إن الجامعة المغربية ستسد – عن طريق هؤلاء الدكاترة – جزءا مهما من خصاصها الكبير في هيئة التدريس، والذي بات مثار شكوى في الإعلام، ولدى كثيرين ممن يعنون بقضايا التعليم الجامعي، وسيزدهر كذلك البحث العلمي الذي يمارسه معظم هؤلاء الدكاترة رغم إكراهات التعليم الثانوي، وستستفيد الجامعة من إنتاجاتهم في هذا المجال، علما أن لدى أغلبهم مؤلفات ومقالات محكمة وحضورا ثقافيا فاعلا لا يتوفر لكثير من أساتذة الجامعات – ونحن تتلمذنا على أيديهم ونعرفهم ونعرف مستواهم العلمي – الذين لا حدود لغرورهم الأجوف ولا لاعتدادهم بأنفسهم على هزالة بضاعتهم.

لقد كان أحرى بأساتذتنا في نقابة التعليم أن يقفوا على الحياد من ملف الدكاترة، ويدعوهم وشأنهم مع وزارة التربية الوطنية، لا أن يتصلبوا على هذا الموقف غير المبدئي وغير الأخلاقي، والذي تمليه في الغالب دوافع غير كل ما ناقشنا ؛ إذ أغلب الظن أن عواطف سيئة، ومصالح ذاتية، هي ما يملي هذا الموقف شديد الريبة والغرابة..
إننا على ما نعلم من أننا انزلقنا إلى حجاج قاس فيه شيء غير قليل من البساطة ؛ بل ومن الإسفاف كذلك ؛ ذلك أنه كان أحرى بنا ألا نناقش موقف هذه النقابة لعدم موضوعيته، بل لشذوذه بالأحرى، لكننا لم نجد بدا من أن ندلي بما أدلينا به، وذلك لأننا لم نكن نتوقع تماما هذا الموقف، وكذلك لأن هذا الموقف كان من العوامل الرئيسية في عدم انتهاء ملف الدكاترة إلى الحل العادل المقدور له. وأخيرا لأننا نود من هذه النقابة أن تتجند من باب أولى للمشاكل التي تغرق فيها الجامعة المغربية وهي لا حصر لها، وأن تسعى إلى تحسين جودة التعليم العالي، بدلا عما انزلقت إليه من اهتمام هابط كشف تفاهتها وعرى عوراها.
النقابات وملف الدكاترة
إن كان من شيء “إيجابي” وحيد قدمته النقابات – أقصد هنا الأكثر تمثيلية منها، لأنها هي من تبنت الملف دون غيرها – لملف الدكاترة ولقضيتهم، فلن يكون سوى هذا الغطاء النقابي شديد الاهتراء وكثير الثقوب، والذي لم يستفد منه الدكاترة شيئا ذا بال في واقع الأمر. بل الحق أن هذه النقابات، كما بات جميع الدكاترة يقتنعون، هي من وقف دون حل ملفهم في اللحظات السانحة التي كان فيها هذا الملف أقرب للحل، وهي من اتخذ ملفهم ورقة ضغط لحل ملفات أخرى، دون أن يكون لديها نية أو إرادة لحل ملفهم بعد ذلك..
وعلى مدار هذه المحطات النضالية الأخيرة كان المسؤولون النقابيون الكبار، بما في ذلك الكتاب العامون، يختلفون إلى مواقع وفضاءات الاحتجاجات، حيث يجتمع الدكاترة وغيرهم من الفئات الأخرى، ليعربوا لهم عن دعمهم لاحتجاجاتهم ووقوفهم إلى جانبهم حتى تحقيق مطالبهم. وإني لأذكر المرات العديدة التي جاء فيها هؤلاء القادة إلى معتصم الدكاترة السنة الماضية، وما كانوا يعبرون عنه من تعهد بأغلظ الأيمان وأوثق الوعود، أن يقفوا مع الدكاترة حتى تحقيق مطلبهم الأساس في تغيير الإطار للجميع (الحل الشامل). والواقع أنه لم يكن يسع الدكاترة إلا أن يعتقدوا أن هؤلاء النقابيين يعملون فعلا لمصلحة ملفهم، فيصدقونهم في تعهداتهم وينتظرون بكثير من الثقة تحققها. وكان أفراد المنسقية – الذين هم أعضاء ذوو مسؤولية في الغالب داخل هذه النقابات – وهم دكاترة مناضلون على الملف يجددون التأكيد في كل مناسبة على استمرار نقاباتهم في دعم الملف وعدم تخليها عنه مطلقا، ومهما تكن الإكراهات.
ومع دخول الاعتصام شهره الثاني، ولربما بعد ذلك بأيام قليلة لم تبلغ منتصف الشهر، بدأت تسري في المعتصمين إشاعات وحركة مريبة بكون واحدة من النقابات المحتضنة، ولربما أكثر من واحدة، تريد أن تتخلى عن ملف الدكاترة وترفع غطاءها النقابي عنهم، وتأكد شيء من ذلك بانسحاب بعض أفرادها من المعتصم وعودتهم للعمل. ومن تلك الوقائع المريبة تبين للكثيرين أن هذه النقابات إذا لم تكن صادقة في التزامها فقد تكون أخطر على الملف من أي جهة أخرى تناصبه العداء وتسعى لعدم حله. ولم يمر كثير وقت بعد ذلك حتى صدقت هذه النقابات ما كان مظنونا فيها، وأقدمت أربع نقابات على رفع اعتصام الدكاترة بطريقة ليس أكثر منها دناءة وجبنا. وما حدث أن هذه النقابات، وبالمعنى الحرفي للكلمة، تواطأت على الكذب، ولم يكن في أفرادها ولا حتى في أعضاء المنسقية من له الشجاعة ليعترف أن ما قيل بخصوص توقيع النقابات والوزارة محضرا رسميا بحل يرضي الدكاترة، لم يكن أكثر من كذبة كبرى وخداع لئيم من النقابات الاربع ، الغرض منه فض الاعتصام الذي ستقدمه النقابات كثمن لحل ملفات أخرى. وبرأيي أن هذا هو ما يمكن أن يكون حدث فعلا. ومهما يحاول البعض أن يدافع عن هذا الموقف فإنه لن يستطيع أن يبرر أن النقابات اتخذت قرارا لم يكن مطلقا في صالح الدكاترة، ولم يقدر تماما شكلهم النضالي (الاعتصام)، المكلف ماديا وإنسانيا. وعلاوة على هذا فإن هذه النقابات لم تكن مجبرة، فيما نعتقد، لترفع المعتصم وهو قرار يجب أن يستشار فيه الدكاترة لأنهم المعنيون به وبنتائجه ؛ لكنها بالمحصلة كذبت واتخذت قرارا غادرا ضحت فيه بنضال الدكاترة وباعت قضيتهم مقابل صفقات تحقق بها مصالحها الخاصة..
وفي السنة التالية (الموسم الحالي)، وبعد أن استكملت هذه النقابات أغراضها في الاسترزاق بملف الدكاترة، واتخاذه قنطرة لحل ملفات أخرى هي أفيد لها من وجهة نظرها، بدأت الواحدة تلو الأخرى تتخلى عن الدكاترة وتضن بتوقيعاتها على بياناتهم حتى لم يبق الآن إلا نقابة واحدة تقدم غطاءها لهم: الجامعة الوطنية للتعليم
إنها سيناريوهات بئيسة ودنيئة هذه التي تنخرط فيها كل مرة هذه النقابات بادعاء أنها تدافع عن قضايا الفئات المختلفة في المجتمع. وهي إنما تمارس استرزاقا ليس أكثر منه دلالة على الانحطاط الإنساني وعلى محدودية البعض في البحث عن سبل شرعية لعيش الحياة بكرامة. وإلا، فأن تمارس النقابة، وهي نظريا مؤسسة لها مجالها العملي القانوني الضروري كحاجة اجتماعية وسياسية، معناه أن تلتزم أخلاقيا، بداية، مع هؤلاء الذين وكلوك على مصالحهم واستأمنوك عليها، وتكون واضحا معهم كل الوضوح في نتائج المسعى النقابي. أما أنك تكون على يقين تام أن ملفا من الملفات لا حل له ومع ذلك تظل تسوق الوهم للناس وتكذب عليهم غير عابئ بمعاناتهم وما يكلفهم النضال، فلن تكون في هذه الحالة أكثر من إنسان منحط يمارس أبشع أنواع الكذب ويرتزق على معاناة الناس ومصالحهم التي يدعي الدفاع عنها، وهو إنما يعطلها. والواقع أن أغلب النقابيين هم على هذه الشاكلة. وممن تولوا ملف الدكاترة نقابيون هم أسوء مما ذكرنا في واقع الأمر، لأنهم كانت لهم جرأة غريبة فتطاولوا على فئة متميزة بمستواها العلمي وقرروا أن يعبثوا بها في قضية لها نتائج كارثية إذا لم تلق الحل، وذلك لارتباطها بالتعليم وبالتلاميذ الذين تتعطل دراستهم بسبب الإضرابات والاعتصامات. ومن ناحية أخرى، فإنه لا شيء يدعو إلى الخوف من الدولة أو إلى محاباتها إذا كان ما أطلبه هو حقوق الناس القانونية والدستورية، وأطلبه بطريقة قانونية ودستورية. وإذا لم يستطع النقابي أن يشتغل وفق هذه القناعة المبدئية، فليس له أن يخضع للابتزاز والضغوط التي يمارسها المفاوضون والمحاورون عن الحكومة، بل يمكنه أن يصارح الناس بما يحدث ويعفي نفسه من مغبة الانخراط في أي ممارسة غير مبدئية تجعله يبيع قضايا الناس ويبيع نفسه قبل ذلك..
أفق النضال
ترتكب وزارة التربية الوطنية خطأ كبيرا بإصرارها على استبقاء هذه الفئة من الدكاترة في مؤسساتها الثانوية رغم ما تعلم من أن هذا الاستبقاء ينطوي على إهدار جسيم لطاقات وجهود كبيرة كان أحرى أن يتم استثمارها في القطاعات المختلفة كجهود ومشاريع في البحث العلمي تفيد منها الدولة في تحقيق التنمية الشاملة للبلد ماديا وإنسانيا. وبدلا عن تعللهم بحجج وأسباب تافهة وتمسكهم بالحقد والشنآن والانتقام، فإن على المسؤولين في هذه الوزارة أن يغلبوا مصلحة البلد العليا في التنمية الحقيقية التي لم تقم في بلد، ولن تقوم، إلا من خلال البحث العلمي ونتائجه في التقانة والتصنيع وابتكار الأنظمة المختلفة في المعلوميات وبرامج التعليم والتربية وتطوير المعرفة المنافسة، وغير ذلك من أسس المجتمعات الحديثة المتقدمة والديمقراطية.
وتتجلى الخطورة المتزايدة لقرار الاستبقاء هذا في أن الإهدار المرتبط به لا يتوقف عند هذا العدد المحدد من الدكاترة الذي لا يتجاوز الآن الألف دكتور بعد تغيير الإطار لنحو ستمائة وثمانين آخرين، بل سيكون مزمنا باعتبار أن هناك أعدادا كبيرة من الدكاترة في الاختصاصات المختلفة ستتخرج كل سنة وسيتم إهدارها هي الأخرى، بهذا الوضع غير الطبيعي. وإذا أضفنا إلى هذا العدد من الدكاترة العاملين بوزارة التربية الوطنية أعدادا تقدر بالمئات، إن لم نقل بالآلاف، وتتزايد كل سنة، تعمل بالوزارات المختلفة، وهي أيضا تتعرض لنفس حالة الإهدار والتعطيل، فإنه يمكن أن يتضح لنا كيف أن الدولة ترتكب خطأ فادحا يهدد التنمية التي تنشدها، وتفوت بعدم اتخاذها قرارا وطنيا شجاعا بوضع حد لهذا النزيف الخطير، فرصا ضخمة سانحة لتحقيق الإقلاع التنموي وبناء الديمقراطية الحقة.
إن هذه هي أحلام وأهداف هذا البلد العظيم بتاريخه العريق وبشعبه الكريم التواق إلى المعالي وبنظامه الحريص على نهضته واستقراره، نراها تتهاوى وتتبدد دون أن تكون لدى أحد القدرة على استنقاذها من وهدة الضياع والإهدار. إنه لعجز مهين هذا الذي يكبلنا ولا نملك الانعتاق من أوضاره وأصفاده. وسوف لن يكون بوسع أحد أن يبرئ ساحته من المسؤولية عما يحدث، وخاصة أولئك الذين لهم تكليف مباشر ورسمي في مهام ووظائف لها تعلق مباشر بنهضة البلد وديمقراطيته.
ومن جهتهم، فإن على الدكاترة أن يؤمنوا بدورهم في البحث العلمي، وأن يكون هذا الإيمان بمثابة حافز حاسم يدفعهم للمطالبة بحقهم في ممارسة هذا الدور، وعدم الاستسلام لأي من هؤلاء المسؤولين الذين قصرت نظرتهم عن تبين مصلحة البلد، فهم أسيرو عقابيل المناورة والكذب والشنآن والفساد.
والسيد الوفا قد قطع على نفسه عهدا أنه سيطوي ملف الدكاترة عبر حل شامل لا يجاوز فيه نهاية السنة الجارية أو الشهر الثاني من العام 2013. ونحن نذكره بهذا الوعد ، مع إعلامه أننا نذكره أيضا ولا ننساه مهما تكن درجة التزامه به.
أم تراه ليس أكثر من وعد عرقوب، شأن وعود العديد من المسؤولين قبله!!؟

Comments are closed, but trackbacks and pingbacks are open.